الملف الإخباري- الدكتور محمد فراس التميمي والدكتور علي شحادة والأستاذ الدكتور موفق العتوم / كلية الحجاوي للهندسة التكنولوجية
أوجد التعقيد والتصعيد في الآونة الأخيرة ضرورة للبحث في الأثر البيئي الناتج عن العمليات العسكرية الاسرائيلية المكثفة على قطاع غزة، واتضح خلال تحليل مفصل أنها ليست مصدر قلق إنساني عميق فقط، إنما تُشكل أيضا مسألة بيئية هامة وذات خطورة عالية؛ وذلك وفقا لتقييم أجراه ثلاثة من أعضاء الهيئة التدريسية في كلية الحجاوي للهندسة التكنولوجية (د. محمد فراس التميمي، ود. علي شحاده، وأ. د. موفق عتوم) والذي أُجريَّ بعد 35 يوما من تصاعد الصراع. إذ تم تقدير انبعاثات بمقدار 60.304 مليون طن تقريبا من مكافئات ثاني أكسيد الكربون. وهذا الرقم يشمل مجموعة مصادر؛ بما فيها استهلاك الوقود، والذخائر، وثلاثي نتروتولوين (TNT)، وهدم المباني، وإعادة بناء البنية التحتية المدنية.
إن معظم هذه الانبعاثات يعزى إلى عمليات الهدم وإعادة البناء المستقبلية للبنية التحتية، وهو بمثابة تذكير صارخ بالعواقب البيئية التي يتم تجاهلها في الحروب غالبًا، وما يجعل الأمر أكثر خطورة؛ استمرارية العدوان لسنة – كما تلمح قوات الاحتلال الإسرائيلية- إذ إن الانبعاثات الكلية يمكن أن تتزايد إلى مقدار مقلق يصل إلى 629 مليون طن CO2e. تؤكد هذه النتائج الأهمية البالغة لدمج الاعتبارات البيئية في العمليات المتبعة لحل النزاعات، والاستراتيجيات المستخدمة لإعادة الإعمار بعد النزاع. وبالتالي هناك حاجة ملحة الى إيقاف هذا العدوان على قطاع غزة وبشكل فوري.
استهلاك الوقود
تكشف التحليلات العميقة للأثر البيئي للعدوان الاسرائيلي عن مسألة خطيرة ألا وهي؛ الانبعاثات الغازية الدفيئة الكبيرة الناتجة من استخدام واسع للوقود في مناطق العدوان، والتي تساهم بشكل كبير في تغير المناخ. ومع ذلك، فإن التقدير الدقيق لاستهلاك الوقود الأحفوري في هذه المناطق يمثل تحدياً كبيراً، بشكل رئيسي بسبب المحدودية في توفر البيانات، وعدم وجود تصور دقيق لنطاق هذه الأثار البيئية. كما أن عمل تحليل مفصل لهذا الاستهلاك يتطلب مجموعة كبيرة من البيانات والافتراضات، بما في ذلك؛ كمية الاليات المستخدمة في العمليات العسكرية واللوجستية، وخصائصها التشغيلية، والمسافات التي تقطعها، وبنية سلاسل التوريد. ويعد الحصول على هذا النوع من المعلومات والبيانات صعباً في زمن السلم، ويميل إلى الاستحالة أثناء النزاع. لهذا تم اللجوء إلى نهج بديل يشمل توقعات علمية حول استخدام الوقود للقوات العسكرية. وعلى الرغم من القيود وعدم اليقين بالبيانات المتاحة، فإن هذه الطريقة يمكن أن تقدم تقديرا تقريبيا لمستويات استهلاك الوقود. حيث إن القوات الإسرائيلية المحتلة كانت قد القت ما يعادل 300 كيلوطن من هذا الوقود في سبتمبر، أما في أكتوبر، ازداد هذا الرقم بشكل ملحوظ لثلاث مرات؛ مشيراً إلى تصعيد ملحوظ في توريد الوقود لهذه المناطق، وتعدُّ هذه الزيادة مشابهة للزيادة التي حدثت خلال الحرب الروسية الأوكرانية.
وبعد الاطلاع على التقارير الوطنية حول انبعاثات الغازات الدفيئة المقدمة تحت اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ (UNFCCC)، تُصنف هذه الانبعاثات الناجمة عن الأنشطة العسكرية تحت 1.A.5 (غير محددة في أماكن أخرى) في إطار التقارير القياسي. وتشمل هذه الفئة انبعاثات من كل مصادر احتراق الوقود غير المحددة، التي تتضمن انبعاثات ناشئة من استخدام وقود عسكري (1.A.5.a للاحتراق الثابت و1.A.5.b للاحتراق المتحرك). وعلى الرغم من أن هذه الفئة قد تغطي مصادر أخرى للانبعاثات كذلك، إلا إنها تمثل أكثر مصدر بيانات موثوقية لتقييم كمية الانبعاثات الناتجة عن العمليات العسكرية في غزة قبل العدوان الإسرائيلي؛ ووفقاً لأحدث البيانات المتاحة لـ UNFCCC، فإن 448.03 كيلوطن CO2 يتم توليدها بواسطة 140 كيلوطن من الوقود. وبالتالي، يُقدر إجمالي استهلاك الوقود خلال عدوان إسرائيل على غزة بـ 1.92 مليون طن من مكافئات ثاني أكسيد الكربون، حتى الآن.
الذخائر
استخدمت خلال هذا العدوان الأسلحة المدفعية على نطاق واسع، ويمكن لهذه الأسلحة أن تطلق مقذوف يزن حوالي 40 كجم لمسافات تتراوح بين 17 إلى 40 كيلومتر، وبالتالي تنتج الانبعاثات الغازية من إنتاج المواد الخام للذخائر، ونقلها إلى ساحات القتال، واحتراق المادة الدافعة عند إطلاقها، وانفجار الرأس الحربي عند التأثير. ونظرًا لأن هذه الذخائر من المرجح أن يتم تجديدها لتعويض المخزون خلال العدوان؛ فإن الانبعاثات الناتجة عن إنتاجها مهمة أيضا لتقييم تأثيرات العدوان على المناخ.
يتفاوت استخدام المدفعية اليومي بشكل كبير، ويُقدر بين 5000 إلى 60000 قذيفة، ويتغير مع شدة القصف في الجبهة، ويقدر أن إسرائيل تستخدم 50000 قذيفة يوميًا (أي 1.85 مليون خلال 35 يومًا). وتأخذ هذه التقديرات المحافِظة في الاعتبار المعلومات المحدودة، وعدم اليقين العالي. علاوة على ذلك، يتم تدمير كميات كبيرة من الذخائر في الضربات على المستودعات؛ مما يؤثر أيضًا على الانبعاثات. فالانبعاثات المتوسطة من ثاني أكسيد الكربون المكافئ لكل قذيفة مدفعية مستخدمة في هذا العدوان تبلغ تقريبًا 1.4 طن؛ مما ينتج عنه تقريبًا 2.59 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون المكافئ.
الانبعاثات الناتجة عن استخدام TNT
يمكن تقدير الانبعاثات الناتجة عن استخدام إسرائيل لـ TNT خلال العدوان بناءً على كمية TNT المستخدمة، وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي تنتجها، فقد استخدمت إسرائيل ما مجموعه 30000 طن من TNT، وهو ما يعادل 30000000 كيلوجرام. وينتج عن احتراق TNT كمية كبيرة من ثاني أكسيد الكربون، حيث ينتج كل كيلوجرام من TNT تقريبًا 1.467 كيلوجرام من ثاني أكسيد الكربون، إذ بلغت الانبعاثات الكلية من استخدام TNT حتى الآن 0.044 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون المكافئ.
الانبعاثات الناتجة عن هدم المباني
تشكل الانبعاثات الناتجة عن هدم المباني خلال العدوان مساهمة كبيرة في التأثير البيئي الشامل، خاصة في سياق دور صناعة البناء في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية. ويلعب إنشاء المباني دورًا هامًا في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، حيث تمثل هذه الصناعة حوالي 11 في المئة من المجموع الكلي. وتشمل هذه النسبة انبعاثات من مجموعة من الأنشطة مثل إنتاج المواد المكثفة للطاقة مثل الخرسانة وحديد الصلب، ونقل هذه المواد، وتشغيل معدات الانشاء، ولا سيما عمليات هدم المباني. فعندما يتم هدم مبنى، لا ينتج عنه كمية كبيرة من مخلفات الركام فحسب، ولكن أيضًا يؤدي هذا إلى توليد انبعاثات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون. على سبيل المثال، ينتج عن هدم مبنى مكتبي مساحته 100 متر مربع تقريبًا 1000 طن متري من مخلفات الركام وحوالي 110000 كيلوجرام من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
وفي سيناريو العدوان، تم تدمير حوالي 50000 مبنى، كل منها بمتوسط حجم 500 متر مربع، وبالتالي يكون التأثير البيئي مرتفعًا بشكل ملحوظ، ويشير حجم هذه المباني الكبير إلى زيادة تناسبية في كل من مخلفات الركام وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون مقارنة بالمباني الأصغر حجماً. مما يعني، أن كل مبنى بمساحة 500 متر مربع يولد حوالي خمسة أضعاف مخلفات الهدم وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون لمبنى بمساحة 100 متر مربع، فالتأثير التراكمي على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن هدم هذه المباني كبير؛ مما يعكس التكلفة البيئية الهائلة لمثل هذا الدمار الواسع النطاق في فطاع غزة. ويسلط ذلك الضوء أيضًا على أهمية ممارسات البناء المستدامة، مثل تطوير المباني الخضراء، التي لها بصمة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أقل بكثير مقارنةً بطرق البناء التقليدية. بهذا، تكون الانبعاثات الإجمالية من هدم المباني في القطاع حتى الآن 27.5 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون المكافئ.
إعادة بناء البنية التحتية المدنية
تحمل عملية إعادة إنشاء البنية التحتية المدنية- وهي جانب حاسم في أعقاب العدوان الحالي- انبعاثات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون المكافئ. بمتوسط، يُقدر بأن إعادة بناء كل وحدة مدمرة يولد حوالي 565 طنًا من ثاني أكسيد الكربون المكافئ. ونظرًا للأضرار الواسعة التي لحقت في مناطق القطاع المختلفة، والتي تتطلب إعادة بناء حوالي 50000 وحدة، ويعادل هذا مجموعًا كبيرًا يبلغ 28.25 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون المكافئ. يتماشى هذا التقدير مع الانبعاثات الناجمة عن عمليات إعادة الإنشاء المماثلة والتي تلت النزاع الروسي الأوكراني.
وعليه فإن الانبعاثات الكلية لثاني أكسيد الكربون الناتجة عن الأنشطة المختلفة خلال العدوان والذي استمر 35 يومًا تعتبر كبيرة، ويُقدر أنها تبلغ تقريبًا 60.304 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون المكافئ. وإذا ما استمر النزاع لمدة عام -كما تلوح به قوات الاحتلال الإسرائيلي- فإن الانبعاثات الكلية قد تتزايد لتصل إلى حوالي 629 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون المكافئ، وهو ما يعادل إنتاج انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لدولة صناعية مثل ألمانيا في عام 2020، ويشمل هذا المجموع الانبعاثات الكبيرة الناتجة عن الدمار والهدم والإنشاء اللاحق للمباني، وهو المساهم الأكبر في هذا التقييم. إذ تبرز هذه الأرقام التأثير البيئي العميق للعدوان؛ مما يؤكد الحاجة الضرورية إلى مراعاة العوامل البيئية في ايجاد حل فوري لإيقاف العدوان وخلال مرحلة التعافي فيما بعد.
زر الذهاب إلى الأعلى