مقالات

الرواية العربية والمقاومة… أ.د.نبيل حداد

الملف الإخباري- سرد المقاومة أم المقاومة في السرد؟

بداية؛ من الضروري طرح السؤال التالي: هل سرد المقاومة عنصر موضوعي فحسب من بين عناصر أخرى تحضر في عمل سردي ما، أم أنه ثيمة أساسية في العمل السردي تتضافر لإنجازها عناصر الرواية كافة، بحيث تهيمن هذه الثيمة على العمل فتُرد إليها كل عناصره ومساراته وتفصيلاته؟

وبالنسبة للتعبير الأول (سرد المقاومة) فإن المتابع من ذوي الاهتمام يلاحظ بسهولة أن الأعمال التي يمكن أن يمكن أن تنطبق عليها دلالة هذا المفهوم، أقل بطبيعة الحال، من تلك التي يحضر فيها مفهوم المقاومة ببعده الموضوعي أو بنسيجه الفني بوصفه عنصرا واحدا فحسب من بين عناصر أخرى تحضر في العمل. وإن شئنا أن نكون أكثر تحديدا؛ نزعم أن معنى المقاومة هو الثيمة الوحيدة في العمل الروائي القائم على سرد المقاومة، بل ثيمته الوحيدة؛ فالحدث حدث مقاوم، والشخوص ومن يرتبط بهم مقاومون، والخط العاطفي إن حضر، يأتي في سياق الفعل المقاوم، والعلاقات الإنسانية بمجملها في العمل، تتداخل – في العمل الناجز من هذا اللون- تداخلا عضويا وليس موازيا للأحداث التي تنبعث من ثيمة أخرى أساسية، غير المقاومة. إن هذا ينطبق مثلا على رواية «قصة حب» ليوسف إدريس التي أخرجتها السينما العربية بفيلم حافظ على تماسك الفكرة؛ «لا وقت للحب». فما يجمع بين البطلين المقاومين حمزة وفوزية هو طريق النضال ومقاومة المحتل، ويمكن رد كل حدث، صغيرا كان أم كبيراً إلى تيار الأحداث الأساسي أو إلى المظلة الرئيسية: المقاومة.

ولو أخذنا مثلاً رواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي ذات الموضوع نفسه، والمضمون المختلف عن مضمون رواية إدريس، فسنجد أن أحداثها وشخوصها كلها تقف على أرضية واحدة، مقاومة الاستعمار وأذنابه من المستغلين المحليين، وكذلك الأمر بالنسبة لرواية «في بيتنا رجل» لإحسان عبد القدوس حيث تجري أحداث قصة الحب الرومانسية بين إبراهيم ونوال في سياق لجوء البطل مختبئاً في بيتها بعد قيامه بعمل مقاوم… وفي التجربة الأردنية يمكن أن نشير مثلاً بالبنان إلى رواية طاهر العدوان، «وجه الزمان». أما الرواية الفلسطينية فحدث ولا حرج، إذ يكاد معظم الأعمال الروائية في الأدب الفلسطيني أن تحضر فيه ثيمة بشكل ما من أشكال المقاومة، بحيث يمكن القول إن هذا الأدب هو النموذج العربي الأنصع لما يعرف بأدب المقاومة. وهكذا الأمر بالنسبة لجميع الأقطار والبلدان التي عاشت تجربة نضالية سواء في زمن الاحتلال أو في السنوات الأولى التي واكبت ما بات يعرف الآن بحقبة ما بعد الاستعمار، فقد أشرقت شمس هذه التجربة في وجدان معظم الأدباء أعمالا أدبية متوهجة في جانبها الموضوعي على الأقل..

أما قولهم «المقاومة في السرد»؛ فمن الواضح أن فعل المقاومة يقتصر على خط واحد إلى جانب خطوط أو ثيمات موضوعية أخرى، يشكل مكونا رئيسياً أو هامشياً في العمل، ولعلنا نجد هذا المكون حاضرا في معظم الأعمال التي واكبت أو أعقبت مباشرة مرحلة الاستعمار. وبخاصة في الرواية الحديثة القائمة على المحاكاة التقليدية، سواء كانت أعمالا رومانسية أو واقعية، بل ربما وجدته في كثير من الأعمال المسرحية أو تلك القصصية التي تكتب لتحول إلى أعمال سينمائية اتخذت المقاومة خطاً أو مكوناً أو شخصية أو حتى موقفا ما، عابرا أو رئيسيا. وهو ما نراه في عدد لا يحصى من الأعمال الدرامية أو الشعرية العربية. خذ مثلا «أبناء القلعة» لزياد قاسم التي اجترحت خطا من بين سلسلة مواقف تكاد تكون نسخة عما قرأناه في واقعة استشهاد فهمي في «بين القصرين». وهذا الخط النضالي حاضر بقوة في العديد من أعمال ليلى الأطرش. أما رواية «القرمية» لسميحة خريس، فإنها بشكل أو بآخر تستوحي أحداثها وفضاءها من الثورة العربية الكبرى، وقل مثل ذلك عن الأعمال الأدبية في معظم الأقطار العربية في المشرق والمغرب. ولعل هذه حقيقة منهجية يمكن تقال في سياقات أخرى، كأن نقول رواية المدينة أو المدينة في الرواية أو رواية سجن أو السجن في الروية، لكن هذا التصنيف قد يتسم بآلية تقود بساطتها إلى شكل من الالتباس مع أنها تظل دالة؛ كأن نقول الرواية التاريخية والتاريخ في الرواية، وهكذا بالنسبة للمكان والقرية والبادية والطبقة الاجتماعية…. إلخ. وما سبق يمكن أن يفضي بنا إلى ظاهرة أخرى. صحيح أن معظم الأعمال المعنية في هذه المقاربة قد يصدر عن رؤية فنية رومانسية أو واقعية، لكن التقصي في متابعة هذه الأعمال سينتهي بنا إلى حقيقة تاريخية مؤداها أن الموجة الكاسحة من هذه الأعمال تنتسب زمنيا إلى المرحلة الرومانسية، وأن معظم ما صدر بعد انحسار الرومانسية في مطلع الستينيات إنما صدر بدوره عن رؤية رومانسية.

الرواية والسينما:

وساعد على هذه الموجة بروز دَوْر السينما العربية بوصفها فنا جديدا يعبر بالصوت والصورة عن حياة الناس ويجسد أمانيهم المشتركة والفردية، ويقوم في الأساس من بين ما يقوم عليه من عناصر أخرى على العمل القصصي، سواء كان هذا العمل معد خصيصا للسينما، أو كان عملا أدبيا يصلح لهذا الغرض بعد معالجات سردية مناسبة.

وبالتأكيد فإن ما يناسب الفن السينمائي من أعمال أدبية يأخذ في اعتباره الجمهور العريض (النخبوي وغير النخبوي بصرف النظر عن المستوى التعليمي أو الفكري أو الطبقي أو حتى المهني… ومن فإن فن القص الأنسب لما بات يعرف بالفن السابع انتسب حصرا حتى أواخر الستينيات من القرن الماضي، أي خلال المرحلة الذهبية للسينما العربية إلى التيارين الرومانسي بتنوعاته، والواقعي باتجاهاته المختلفة: الواقعية النقدية والواقعية الطبيعية والواقعية الاشتراكية، أي إلى فن القص الذي أساسه محاكاة تتوجه إلى الحواس، أما الرواية «الجديدة» التي لاحت ملامحها في الستينيات وترسخت تجاربها بعد ذلك وحتى يومنا هذا، فإنها لا تقوم على محاكاة الواقع، بل إن كل عمل في هذا الاتجاه ينشئ واقعا خاصا بالعمل وصادرا عن من مغامرة تجريبية، بحيث يكون النص مفتوحاً على التفسيرات التي قد تتعدد بتعدد المتلقين النخبويين بخاصة.

ولما كان لأدب المقاومة توجه تحشيدي أو تعبوي إضافة إلى عطائه الجمالي، فإن أدبيات ما بات يعرف الآن بالرواية الجديدة لا تولي اهتماماً كبيراً لأي بعد خارج نطاق الوظيفة الشكلية. بل إن همه ينصب على الجانب الجمالي القائم على الإيقاع والتجريد والتفلت من أي إطار فكري منطقي يمكن أن يرتهن إليه العمل الأدبي. على أن الحاجة تظل أشد في الاتجاهين الرومانسي والواقعي، للسرد الأدبي والسرد السينمائي بخاصة، لضمان وصول رسالة العمل الفني المقاوم إلى أوسع نطاق من الجماهير، وهذه غاية من الصعب بلوغها بالنسبة للأعمال التجريبية التي تتطلب جمهرا نخبويا.

وما سبق يقودنا بالضرورة إلى مشكلة أهم، بل معضلة أفدح؛ إن كثيراً من نماذج سرد المقاومة قد ترتهن إلى قضايا مرحلية أو ظروف ضخمة، ولكنها لا تدوم بحيث تنقضي أهمية العمل بانقضائها. لنصبح إزاء أعمال يمكن أن تندرج بما يتعارف عليه «بأدب المرحلة». ومن ثم تتناقص القيمة الفنية لهذا اللون من الأدب وقد يتلاشى تأثيرها الفكري وعطاؤها والجمالي بانقضاء المرحلة أو الحدث الذي ارتبط به مضمونها، ذلك أن مؤلفي هذه الأعمال في سعيكم للدور التحشيدي قد يجدون أنفسهم متورطين للجوء إلى أساليب فنية مسطحة ومستويات تعبيرية مباشرة طمعا في في مخاطبة كل فئات الناس، أو مسايرة لأوضاع سياسية مهيمنة، وأحياناً تنزلق بعض الأعمال إلى ما يعرف بالأدب الشعبوي، إن رواية «الأم» (1907) مثلا لمكسيم غوركي على نبل معانيها وأهمية مكانتها في تاريخ الرواية، كثيرا ما ُنظر إليها على أنها عمل مرحلي يرتبط بأدبيات التمهيد للثورة البلشفية عام 1917. وليس من قبيل التعسف أن نزعم أن كثيرا من الأعمال الروائية العربية ذات المضمون النضالي التعبوي وصدرت عن رؤية رومانسية أو واقعية اشتراكية، قد لا تحقق شرط الخلود الذي يكتسبه العمل الفني المكتمل، وأن مكانها في أفضل الظروف سيظل سجيناً في إحدى زوايا تاريخ الواقعة أو المناسبة التي حركت الحافز الإبداعي لدى مؤلفيها. نجد هذا في بعض الأعمال التي صدرت خلال حدث تاريخي لم تستكمل مراحله أو تتضح تبعاته. من ذلك مثلاً بعض الروايات أو القصص أو المسرحيات والأفلام التي واكبت أو جاءت مباشرة بعد أحداث مصيرية من مثل قيام ثورة 1952، وحرب 1956 والعملين الشهيرين اللذين واكبا هذين الحدثين وظهرا في عام (1957) «رد قلبي» ليوسف السباعي و»بور سعيد» لعز الدين ذو الفقار (مؤلفا ومخرجا)، وفيلم «ثورة اليمن» (1966) لصلح مرسي، مثل هذه أعمال أقرب إلى التسطيح والقليل القليل من هذا اللون ما يبقى ويستقر في تاريخ الأدب أو الفن وليس في تاريخ الحدث فقط. فالعمل هنا أقرب ما يكون إلى تكأة يحملها الكاتب آراءه وتصوراته، أو بوق ليوصل به صوته إلى أكبر قدر من الناس، وربما تزلفاً لأوضاع قائمة.

ولقد ظل السرد في كل أشكاله وألوانه قائما على عنصر أساسي، من بين عناصر أخرى بطبيعة الحال، هذا العنصر الذي لا غنى لأي عمل سردي أو مسرحي عنه هو الصراع.

لقد ظل الصراع في الأعمال الدرامية من رواية وقصة وسينما ومسرح هو البؤرة التي تلتقي عندها المكونات الأساسية لأي عمل من تلك الأعمال، لأن الحياة تقوم على الصراع، ليس الصراع بشكله الميداني أو المسلح فحسب، بل الصراع بمفهومه الواسع: الصراع من أجل الكرامة، الصراع مع الآخر المعادي، الصراع مع الجار اللئيم، الصراع مع السلطة الغاشمة، الصراع مع المستعمر، وأحياناً الصراع بين الفرد ونوازعه. ولكننا نعيش اليوم في صراعنا مع العدو الصهيوني شكلا جديدا من الصراح في الرواية والإعلام بخاصة.

زمن السرد:

وهناك ميزة أخرى للسرد جعلته -مع عوامل أخرى- النوع الأدبي السائد في أيامنا؛ فنحن الآن نعيش زمن السرد، وليس زمن الرواية فحسب، وقد صحح هذه المقولة في الآونة الأخيرة الراحل الكبير جابر عصفور الذي كان أول من اقترح تعبير زمن الرواية، إن التعبير الصحيح هو زمن السرد وليس زمن الرواية فحسب، أي بما يشمل القصة القصيرة والسيرة الذاتية، والمسرحية لمن يدرج هذا الفن بين فنون السرد. نعيش اليوم إذن زمن السرد شاء من شاء وأبى من أبي لماذا؟ ليست المسألة -فحسب- في قدرة فنون السرد: قصة ورواية ومسرحية، وحكاية وتاريخاً وخرافة وأسطورة وقصة إخبارية… على استيعاب قضايا الإنسان المعاصرة والتعبير عما يعيشه الناس وتشهده الأوطان ولا سيما في المنعطفات التاريخية الحرجة، وإنجاز عالم موازٍ لها هو بلا شك أنه أكثر تنظيماً وأروع جمالاً من العالم الذي نحياه في حياتنا الواقعية… بل لميزة أخرى للسرد؛ لعلها الأهم، وهي انفتاح فنون السرد على الفن الذي بات الآن أكثر الفنون شعبية وتأثيراً وانتشاراً في العصر الحديث، أعنى السينما والدراما التلفزيونية. فهذا الفن السابع كما يقولون أساسه السرد، إذ لا يمكن أن نتصور فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً تلفزيونياً أو حتى خبراً صحفياً دون قاعدة سردية بنى عليها مضمونه ومحتواه وموضوعه ودلاته الفكرية والجمالية… إن معنى أي نص صحفي باللغة الإنجليزية هو story. نعم إن السرد ليس منفتحاً على الفنون الأخرى والعديد من أشكال الكتابة الأخرى فحسب؛ بل مكون أساسي في أبنيتها وتشكيلاتها ورؤاها. وهكذا أطلق على زماننا وبجدارة غير خافية بأنه «زمن السرد».

وهكذا تتهيأ للسرد صدارته وقدرته على التأثير في ثقافة الناس بكل مستوياتهم وفئاتهم، ونقلهم من موقع فكري، أو إيديولوجي إلى موقع آخر. بل أن يجعل من النموذج السلبي نموذجاً إيجابياً. ولنستشهد بما أحدثته رواية «كوخ العم توم» لهارييت بيتشر ستو من تأثيرات هزت أركان المجتمع الأميركي من المحيط إلى المحيط، وكانت بشكل أو بآخر، عنصرا مؤثرا في المعركة التي قادها أبراهام لينكولن رئيس الولايات المتحدة في ستينيات القرن التاسع عشر من أجل تحرير العبيد.

وقد كان لبعض الأعمال الروائية العربية، الرومانسية بخاصة، أثر كبير فيما شهدته المجتمعات العربية (حتى هزيمة 1967) مما أطلق عليه، سواء عن حقيقة أو عن حلم زائف، بالمد الثوري ولا سيما بعد أن حُول بعض هذه الأعمال إلى أعمال سينمائية أو دراما تليفزيونية أو حتى مسرحية. ولنعد إلى العشرينيات وما أحدثته رواية «عودة الروح» (1927) لتوفيق الحكيم «قبل انعاطفته الفكرية» والأفلام والمسلسلات التي قامت عليها. ولنتذكر رواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي، وما أحدثته من ثورة في الوعي الاجتماعي والطبقي، ولا بأس أن نشير في هذا السياق إلى رواية «في بيتنا رجل» والفيلم الذي استند إليها، وإلى رواية يوسف إدريس «قصة حب» التي تحولت إلى فيلم ثوري وتعبوي بمستوى فني متقدم بعنوان: «لا وقت للحب». بل إن يوسف السباعي، كتب رواية عن الصراع العربي الصهيوني بعنوان «العمر لحظة» ظهرت على الشاشة بالعنوان نفسه في عمل سينمائي مؤثر وناجح. وهل ننسى الفيلم السوري «المخدوعون» الذي أخرجه المصري توفيق صالح عن قصة الأديب الشهيد غسان كنفاني «رجال في الشمس» وبرؤية واقعية التزمت برسالة الرواية المريرة وأبرزت جمالياتها بالصوت والصورة… ولنستذكر ما أحدثه فيلم «سجين أبو زعبل» القائم على سردية سينمائية كتبها اثنان من «محترفي» السرد السينمائي، هما عزالدين ذو الفقار ومحمود المليجي.

السينما والدراما إذن كانا من وجهة نظر كثيرين سببا رئيسيا في تصدر السرد العربي للمشهد الإبداعي المعاصر ليس في الثقافة العربية فحسب؛ بل في الثقافات العالمية في المعاصرة. ومن هنا تأتي أهمية السرد في التعبئة الوجدانية للحالة النضالية لدى الإنسان العربي بكل فئاته سواء في حقبة الاستعمار أو ما بعدها.

ومن الضروري أن نشير هنا إلى أن المهمة التعبوية للسرد لا تقتصر على الفعل الميداني، أو النضال المباشر فحسب، بل إن مقاومة التخلف مثلاً، بمعنى من المعاني، هي أدب مقاومة.

ولقد قام السرد العربي إذن بدور كبير في هذا الميدان ولا سيما في الأعمال التي لم تقع فريسة للتعبير المباشر، أو تلك التي لم تخضع للتسطيح أو لتوظيف فكرة النص بفجاجة بمعنى أن يُفصٍّل المبدع عمله الأدبي بتصنع سافر على مقاس الحدث التاريخي ودلالته المكشوفة مهما كان هذا الحدث الخارجي كبيرا ومهما كانت فكرته جليلة. بمعنى أن ليس من وظيفة العمل الأدبي أن يقدم لك العلاج وأن يصف لك الدواء بصورة مباشرة، بل تقتصر مهمة العمل الأدبي أن يشخص ويجسد الحالة النضالية كما هي عليه، وأن يصور الواقع تصويراً فنياً بعيداً عن التصنع والتوظيف المباشر، أما تحقيق الأهداف على أرض الواقع فهو مهمة المناضلين وليس المبدعين. وهو كذلك رسالة المصلحين وليس الأدباء، وحين تحضر رسالة العمل أو حتى مغزاه فإن هذا الحضور يأتي ثمرة لتلقي العمل ولا يكون «ماكيتا» يُفصل على مقاسه، وأكثر ما يكون هذا في السرد الإيديولوجي، حيث لا تعمر طويلا الأعمال المنحكمة لرؤاه وأطره وقيوده.

الرواية المغيبة وصراع السرديتين:

وإذ نعيش اليوم مرحلة ما اصطلح على تسميته بأدب ما بعد الاستعمار، أو أدب ما بعد الكولينيالية، فإن المقاومة، في الأدب بخاصة هي مقاومة ثقافية بمعنى الكلمة؛ ذلك أن الاستعمار بشكله التقليدي قد ولى ولم، يتبق سوى حالة الاستعمار الاستيطاني لفلسطين التي تخطت بشاعتها كل ما عرفه تاريخ الاستعمار من نماذج وأشكال قديما وحديثا. وها هو النضال الثقافي أو صراع السرديات قد بدأ يؤتي أكله على شكل صحوة ضمير مزلزلة شرقا وغربا ولا سيما لدى الأجيال الطالعة؛ فالرأي العام في الغرب يحسب له السياسيون حسابًا مهمًا، لذا ظلت الرواية الإسرائيلية المضلِّلة للرأي العام الغربي تحديدا إلى ما قبل حرب غزة الأخيرة هي الرواية الراسخة بل المهيمنة في الغرب طيلة ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن، وتشكلت على هواها اتجاهات الرأي العام هناك حول القضية الفلسطينية، ولا سيما في الأوساط الأكاديمية، ولكن مع هذا الصمود الأسطوري للشعب العظيم، ومع بشاعة صور الإبادة، التي كانت أقوى من كل الماكنات الجهنمية للتشويه والتزييف؛ لم يعد بوسع أي قوة تحريف أو تزييف أن تحجب الحقيقة الناصعة عن ضمير الشباب بخاصة، الذي يعتمد وسائل التواصل الاجتماعي في بناء تصوراته واستقاء حقائق العالم من حوله، وهيأت لكل شاب أو شابة منبره الخاص بمنأى عن سطوة وسائل الإعلام التقليدية من محطات التلفزة ووكالات الأنباء التي تتحكم بتدفق الأخبار في أرجاء الكرة الأرضية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. لقد ضاقت هذه الأجيال الجديدة ذرعا من تمادي الطبقة الحاكمة من الساسة الغربيين في وتواطئها السافر مع الرواية الصهيونية الزائفة، مما أسهم في فضحها وكشف الستر المسدل على وجهها القبيح الذي يزعم: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. ولم تعد الصورة الزائفة التي طالما أظهرت الجلاد الصهيوني بأنه الضحية المظلوم بفضل إعلام تقليدي قادر على أن يجرّم بريئًا وأن يبرئ مجرمًا. نعم، نشهد هذه الأيام خلخلة من الجذور للسردية الصهيونية التي ظلت مهيمنة في الغرب لأجيال وأجيال.

ومع أن عددا كبيرا من دراسات الرأي العام يجمع بأن انفتاح عقول الأجيال الطالعة في الغرب على السردية الفلسطينية سيكون لهذا أثره البالغ مستقبلا، لصالح الرواية التاريخية الحقيقية، فإننا لا نذهب إلى المدى الذي يرى أن صراع السرديات قد حسم نهائيا لصالح صراعنا الوجودي مع هذا العدو.

ولكن لنترك الحديث في هذا النوع من الصراع للمفكرين والسياسيين والمحللين الاستراتيجيين. وحسبنا أن نشير إلى مثال دال في الرواية العربية يُمثل ما يمكن أن يُطلق عليه «صراع السرديات»، وأشير في إلى مثال واحد في الرواية العربية على هذا الشكل الأخير من الصراع للروائي العراقي علي بدر، صدر سنة 2006 بعنوان «مصابيح أورشليم- رواية عن إدوارد سعيد» حيث يرى أحد الشخوص الأساسيين (أيمن مقدسي) أن صراعنا مع العدو الصهيوني حول القدس تحديدا هو صراع بين روايتين أدبيتين؛ واحدة كتبها الصهاينة ولكنها رغم زيفها فإنها تهيمن على العالم، أما الأخرى الصادقة والحقيقية فقد فرغ ذلك البطل الروائي من كتابتها وجعل من إدوارد سعيد بطلا لها، وأودع مخطوطها أمانة عند الراوي…. ولطالما ظل الراوي يسطر صفحات التاريخ.

ولنا حول هذه الرواية وقفة قادمة في دراسة خاصة بإذن الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى