الملف الإخباري-
ملاحظة: كُتبت هذه المقالة عن فخري قعوار ونُشرت قبل رحيله وأعيد نشرها بمناسبة رحيله إلى الرحاب السماوية
فخري قعوار … حين يكون القاص مقاليا
عنوان رئيسي آخر لأديبنا: إنه كاتب مقالة من طراز خاص، بل قل إنه كاتب الشأن المحلي الأول في الصحافة الأردنية على مدار ثلاثين عاماً وبامتياز. ويا لها من إمكانات خلاقة تلك التي يلج بها فخري للشأن المحلي وتتدعم مع الأيام. ما أجمل أن يستند صاحب القلم الصحفي إلى رؤية الأديب وينهل من معينها ويتكىء على أدواتها. إن أعظم المقاليين العرب في تاريخ الصحافة العربية المعاصرة هم الأدباء حقاً. بل لعل الجمع بين صفتي الأديب والكاتب الصحفي في ظني على الدوام العلامة الأنصع والأنجع في مسيرة القلم العربي في العصر الحديث. وهل ننسى أن أبرز مؤلفات أدبائنا الكبار التي تشع الآن من رفوف المكتبة العربية هي في الأصل مقالات كتبت على صفحات الصحف والمجلات؟
خاضت مقالة فخري قعوار في كل الموضوعات التي تتصل بحياة الناس. لكن فخري لم يعن نفسه كثيراً بكتابة المقالة الأدبية الإنشائية التي تستهدف نقل تجربة شعورية خاصة لدى كاتبها ولا ترتبط بالضرورة بوجهة نظر محددة حول شأن ما من شؤون المجتمع. وهذا أمر طبيعي بمعطيات المرحلة التي نعيش. فلقد ولت أيام المقالة “الأدبية” الخالصة كما كتبها المازني أو مي زيادة. وهذا يعني عند المقالي المحترف المعاصر ربط الموضوع بالشأن الجاري؛ إذ لم يعد يهم القارئ المعاصر طويلاً تأملات كاتب المقالة وهو ينظر إلى أطلال البتراء ثم يروح يحدثنا عن العظة والدرس من الأيام الغاربة، بل ما يهم قارئ اليوم حركة السياحة إلى البتراء ومردودها على اقتصاده الوطني، لا بأس من الحديث عن جمال الصخور الوردية إذ انعكست عليها الشمس وقت الأصيل، ولكن هذا الحديث لا بد أن يندرج في سياق عملي يرتبط بل ينبع من استحقاقات حركة الحياة في اللحظة التي فيها نكتب. وهكذا ظلت مقالة فخرية بارومتراً للأوجاع المحلية وأكثر من هذا مرآة للهواجس القومية.
تكمن قدرة فخري في المعالجة المقالية في رؤيته الأدبية. وهي رؤية إنسانية على الدوام، قادرة على الارتقاء بالحالة إلى مستوى الظاهرة، والمسألة إلى مستوى القضية. وهكذا فإن شكوى المواطن فلان من إحدى الدوائر الرسمية، (وهي حالة فردية) تتحول بالرؤية الرحبة إلى حالة نموذجية يمكن أن تتكرر معك أو معي أو مع أي مواطن آخر. ومن شأن الإيهام بهذا الإحساس أن يجعل الجميع أطرافاً في القضية، وشركاء في المعاناة والبحث عن الحل الأمثل. كل هذا بفعل العناصر “الأدبية” ولا سيما القدرة على التخيل.
لا يعني التخيل عند المقالي الجيد (بل والأديب بصورة عامة) الرجم بالغيب أو التوهم. فالخيال شيء والوهم شيء آخر. إن الخيال طاقة إبداعية خلاقة قادرة على إيجاد العلاقة بين عناصر لا يجمع بينها سوى إبداع الكاتب، ودون ذلك لا رابط بينها، وإلا كيف يرى “الفتى القروي” عمان وهي تشيخ! وكيف يكتشف التجاعيد التي تملأ وجهها؟ وكيف يعاين الأسى المطل من عينيها؟ ألا يحتاج هذا إلى طاقة تخيلية تجعل من “الوهم حقيقة بأداة الخيال حين ندرك الدلالة الواقعية لأحد وجوه عمان؟
ولطالما تحدث العديد من الكتاب والنقاد حول النزوع إلى السخرية في أسلوب فخري. بحيث عدها كثيرون في مستوى الظاهرة، في جميع كتاباته الفنية والمقالية. والسخرية عند فخري ليست وصفاً لموقف التظرف والفكاهة، بل إنها بنية تقوم على شكل ما أشكال المفارقة الفنية. ومرة أخرى نجدنا نتحدث عن “الأدبية” في “الكتابة الوظيفية” عند صاحبنا. لنقرأ الفقرة الآتية مما كتبه فخري في الآونة الأخيرة: “عندما ننزلق هذه الأيام في زحمة غير مألوفة، وخارجة عن حدودها المعروفة، نكتشف أن المسافة التي لا تزيد على خمسمئة متر، تحتاج إلى صبر طويل، وهدر الوقت، والبقاء في الشارع لمدة تقارب النصف الساعة، ونكتشف أن الكثير من السيارات قد تصادمت وبقيت معلقة فوق الإسفلت، والسيارات الأخرى تلف حولها كي تمر ببطء شديد، ونكتشف أيضاً أن الشرطة ليس لها وجود… والأهم من هذه الاكتشافات أن مروحية الأمن العام تحلق فوق الأزمة، ويتأمل ركابها بالزحمة. ليست السخرية هنا من أشخاص، بل من واقع ما. ولئن كان لا بد من افتراض أشخاص تسخر منهم الفقرة فإن أولهم هو الكاتب نفسه، الذي يعزف على مفرده “الاكتشاف” لأوضاع بديهية، فكأنه يسخر من وعيه، ولا بأس من الافتراض في أن السخرية تمتد إلى الوعي الجمعي لأناس المشهد وذلك من خلال حرف يتيم فحسب، نون الجماعة، في ننزلق، ونكتشف. والمشهد نفسه لا يخلو من عناصر المفارقة التي تبعث حقاً على السخرية الإيجابية؛ ما هذه الورطة التي تنطوي عليها دلالة “ننزلق”؟ وما هذه القدرات الخارقة التي تجعلنا نتخيل ماذا يصنع أو لا يصنع، ركاب المروحية فوقنا. إنه الأدب المقالي حقاً القائم على قوة الخيال والقدرة على السخرية الفنية، والمفارقة المنهجية التي تأتي في موضوعها دون تفذلك أو إقحام. إنه الخطاب المقالي القائم على وعي إنساني واجتماعي يقوم بعملية ارتياد جمالي لمناطق في الوجدان لا يقوى على اقتيادنا إليها التعبير المباشر، أو الأسلوب التقريري، الذي لم يكن له حضور قوي، في كل ما قدمه فخري من نتاج فني، وفي معظم ما كتبه من نتاج مقالي. وتبقى السخرية فيما يكتب فخري طاقة حيوية تجعل النص قابلاً لأن يُقرأ كله، مما يهيء لرسالة النص فرصة أفضل للوصول إلى هدفها وإحداث تأثيرها.
ولئن كانت السخرية ظاهرة مشتركة في كل ما يكتب فخري، فإن ثمة ظاهرة أخرى في كتاباته، تستحق وقفة أطول ما سلف، وهي قابلية انفتاح نتاجه بين الأشكال الفنية المتعددة. إن “عنبر الطرشان” جهد ينتمي إلى القصة بمفهومها العام الذي يشمل الرواية، لكن هذا الجهد ينفتح بالعديد من أبوابه نحو المقالة، سواء كان من باب المضمون الاجتماعي، أم من حيث صيغة الخطاب التي تولي اهتمامها بالمتلقين وتضع كل فئاتهم في حسابها. و “العنبر” ينفتح بشكل ما على القصة القصيرة من خلال تلك المواقف الدائرة التي يمكن أن يحمل كل رقم فيها إشكالية إنسانية قائمة بذاتها. أما “خشب الورد” فإنه جهد يحمل بصمات القصة القصيرة في العديد من أقسامه. ولا بأس في أن نقلب المعادلة فنقول: المقالة القصصية، وهو اللون الذي بشَّر به عبدالعزيز البشري قبل نحوٍ من مئة عام، إلى أن أخذ ناصية القول فيه عبقري المقالة العربية في العصر الحديث إبراهيم المازني. وتحضر في هذا السياق مقالة فخري “عمان … حلم الفتى القروي” إنها مقالة تستكمل كل شروط النوع، وهي قصة تكاد تستكمل كل شروط النوع كذلك. إنها باختصار عمل فريد في المستوى المحلي على الأقل في القصة المقالة والمقالة القصة، وهي بكلمة موجزة تستحضر ظاهرة التماهي بين القصصي والمقالي في العديد من أعمال فخري، وهي المعادلة الأكثر بروزاً والأشد تعبيراً عن معظم ما كتبه فخري خارج إطار القصة القصيرة الخالصة، نزوع إلى الدراما في المقالة، ونزوع إلى واقعية المقالة وإشكالياتها الاجتماعية والإنسانية في العديد من الأعمال القصصية، مع الاحتفاظ بالمساحة بين الرسالة وأدواتها التعبيرية، ولقد ظلت هذه المسافة بعيدة بما يكفي للحفاظ على الهوية الفنية لكل ما يكتب صاحبنا.
قراءة ما يكتبه فخري قوار، في إطار أي شكل نثري تجربه ممتعة لأنه يحرص ببساطة، من خلال الوعي الفني التلقائي ولا نقول القصد المتعمد، على توفير العنصر الذي طالما تسبب غيابه بفجوة كبيرة بين العديد من الأدباء والكتاب وقرائهم: إنه عنصر التشويق. ولعل السخرية مكوّن مهم في هذا العنصر، أضف إلى هذا قدرة صاحبنا في “المماطلة السردية” التي نقلها بحرفية عالية من الخطاب القصصي إلى الخطاب المقالي. وهكذا فإنه لا يجد صعوبة في “تعليق” المتلقي في انتظار “لحظة التنوير” في الوقت الذي ينجح فيه في حديثه عن “العلقة” التي يجد فيها أصحاب المركبات أنفسهم في شوارع المدينة المزدحمة.
ولقد ظلت هذه العلاقة الحميمية بين فخري وقرائه تتعمق مع سني التجربة الطويلة من خلال الموقع الذي يطل فيه صاحبنا على الناس: الصحافة. والنجاح عند الكاتب الصحفي، مهما تعددت أسبابه، وتباينت ظاهرة فلا بد أن ينتهي بسؤال مفاده: هل نجح الكاتب في جعل أكبر عدد ممكن من القراء أن يقرأوا المقالة كاملة؟ أجل فإن للنجاح “النوعي” هنا وجهين: كميا بعدد المتلقين، وكيفيا بنوعية القراءة واحترام النص بأن يُقرأ كاملاً.
ولا بأس في السعي لتعميق العلاقة مع الناس (القراء) من أن تتسرب من هنا وهناك العديد من التراكيب “المحكية” المتداولة التي لا يمن أن يقوى تعبير رسمي على إحداث الأداء النفسي الذي تحدثه هذه المفردة الدارجة، أو ذاك التعبير المحكي. لا بأس في هذا ما دمنا في نطاق الفروع وليس الأصول. بل إن من يتتبع قرارات مجمع اللغة العربية الأم في القاهرة، لا بد أن يدهشه هذا الكم الكبير من إجازة التعبيرات الدارجة والمحكية التي لا تخرج لغة فخري عن نطاقها. ويبقى القول إن تسرب مثل هذه التراكيب اللغوية ظاهرة طبيعية في لغة أي مقالي كبير، مثل المازني مثلاً، الذي لم يجد حرجاً في أن يعبر عن استعماله للآلة الطابعة بقوله: “أدق عليها”. إنها جزء من لعبة الإيهام التي يمارسها الأدب الرفيع احتراماً لمدركات المتلقين وحرصاً على تعميق الصلة بهم. ولم تكن هذه القضية عند فخري على حساب أصول العربية ورصانتها التاريخية الراسخة بل إنها نسغ من حيويتها الخلاقة التي تحترم الإبداع، وتيسِّر أمام كل السبل التي تمكن كاتباً كبيراً مثل فخري قعوار، من أن يختط لأسلوبه فرادة كل دأبها استحضار نبض الإنسان بحقيقته الجوهرية، سواء تم تحديد هذا بالكتابة الفنية، أم بالوظيفية، بالتعبير الرسمي أم بالصيغة الدارجة. فالهاجس الأول والأخير ظل الأمانة في تجسيد الموقف والصدق في التعبير عنه.
زر الذهاب إلى الأعلى